الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ومن عجائب البحر ومنافعه قوله سبحانه: {وترى الفلك مواخر فيه} قال أهل اللغة: مخر السفينة شقها الماء بصدرها، وعن الفراء صوت دويّ الفلك بالرياح، وقال ابن عباس: مواخر أي جواري، وإنما حسن هذا التفسير لأنها لا تشق الماء إلا إذا كانت جارية: وقوله: {لتبتغوا من فضله} أي تتجروا فيه فتطلبوا الربح من فضل الله وإذا وجدتم فضله وإحسانه فلعلكم تقدمون على شكره، واعلم أن قوله: {مواخر فيه} جاء على القياس لأن موضع الظرف المتعلق بمواخر بعد مضي مفعولي {ترى}، وأما في سورة الملائكة فقدم الظرف ليكون موافقًا لقوله: {ومن كل تأكلون} ولتقدم الجار في قوله: {ومن كل تأكلون} حذف لفظة {منه} هناك. الواو في {ولتبتغوا} في هذه السورة للعطف على لام العلة في {لتأكلوا} وقوله: {وترى الفلك مواخر فيه} اعتراض في السورتين يجري مجرى المثل ولهذا وحد الخطاب في قوله: {وترى} وقبله وبعده جمع أي لو حضرت أيها المخاطب لرأيته بهذه الصفة، ويمكن أن يقال: إنما قال في الملائكة {فيه مواخر} بتقديم الظرف لئلا يفصل بين لام العلة وبين متعلقها وهو مواخر، وليكتنف المتعلق المتعلقان، وإنما بنينا الكلام على أن قوله: {فيه} متعلق ب {مواخر} لا ب {ترى} لقرب هذا وبعد ذاك والله أعلم. قوله: {أن تميد بكم} أي كراهة أن تميد الأرض بكم والباء للتعدية أو للمصاحبة، والميد الحركة والاضطراب يمينًا وشمالًا. يروى أنه تعالى خلق الأرض فجعلت تمور فقالت الملائكة: ما هي بمقرّ على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال لم تدر الملائكة مم خلقت. قال جمهور المفسرين: إن السفينة إذا ألقيت على وجه الماء فإنها تميل من جانب إلى جانب وتضطرب، فإذا وضعت الأجرام الثقيلة في تلك السفينة استقرت على وجه الماء فهكذا الأرض تستقر على الماء بسبب ثقل الجبال، واعترض عليه بأن السفينة إنما تضطرب على الماء لتخلخلها وخفتها بسبب الهواء الداخل في تجاويف الخشب ومسامها، أما الأرض فجسم كثيف ثقيل من شأنها الرسوب في الماء على ما هو مشاهد من حال أجزائها المنفصلة عنها. فإن كان طبيعة الكل كذلك فكيف يعقل طفوّها حتى توجب الجبال إرساءها وثباتها، وإن لم تكن طبيعة الكل كذلك حتى تكون طافية مائدة وقد أرساها الله تعالى بالجبال، فالرسو والرسوخ إنما يتصور على جسم واقف وليس إلا الماء فينقل الكلام إلى وقوف الماء في حيزه المعين.فإن كان بحسب الطبيعة فهذا خلاف التقدير لأنا نفينا القول بالطبائع الموجبة لهذه الأحوال، وإن لم يكن بالطبع بل كان واقفًا بتخليق الفاعل المختار وتسكينه في حيزه المخصوص فلم لا نقول مثله في تسكين الأرض؟ هذا تلخيص ما قاله الإمام فخر الدين الرازي، ونسب المقام إلى الصعوبة والإشكال واستخرج لحله وجهًا مبنيًا على قوانين الحكمة، وهو أن الأرض جسم كروي، والكرة إذا كانت صحيحة الاستدارة فإنها تتحرك بأدنى سبب، فلما أحدث الله سبحانه على وجه الكرة هذه الخشونات الجارية مجرى الأوتاد منعتها عن السلاسة والحركة. قلت: في هذا الحال خلل. أما أولًا فلكونه مبنيًا على غير قواعد أهل التفسير، وأما ثانيًا فلما ثبت في الحكمة أن نسبة أعظم جبل في الأرض وهو ما ارتفاعه فرسخان وثلث فرسخ إلى جميع الأرض كنسبة خمس سبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع، ولا ريب أن ذلك القدر من الشعيرة لا يخرج الكرة المذكورة عن صحة الاستدارة بحيث يمنعها عن سلاسة الحركة، فكذا ينبغي أن يكون حال الجبال بالنسبة إلى كرة الأرض، والجواب الصحيح على قاعدة أهل الشرع أن يقال: لا نسلم أن الأرض بكليتها لها طبيعة موجبة لحالة من الأحوال، وعلى تقدير التسليم فلا نسلم أن لها طبيعة الرسوب بل لعل طبيعتها الطفوّ فلهذا احتاجت إلى الرواسي، وأما قوله: لم أوقف الله الماء في حيزه ولم يوقف الأرض من غير إرساء فلا يخفى سقوطه مع القول بالفاعل المختار، فللوسائط والأسباب مدخل في الأمور العادية، وإن لم نقل بتأثيرها، هذا وإن حركة الأرض عند الزلازل لا تنافي حكم الله بعدم اضطرابها لأن إثبات الحركة لجزء الشيء لا ينافي نفيها عن كله، وشبهوا الزلزلة وهي حركة قطعة من الأرض لاحتقان البخارات في داخلها وطلبها المنفذ باختلاج يحصل في جزء معين من بدن الحيوان.قوله سبحانه: {وأنهارًا} معطوف على {رواسي} أي وجعل فيها رواسي وأنهارًا لأن الإلقاء هاهنا بمعنى الجعل والخلق كقوله: {وألقيت عليك محبة مني} [طه: 39]، وكذا قوله: {وسبلًا} أي أظهرها وبينها لأجل أن تهتدوا بها في أسفاركم، ولما ذكر أنه أظهر في الأرض سبلًا معينة ذكر أنه أظهر في تلك السبل علامات مخصوصة وهي كل ما يستدل به السابلة من جبل وسهل وغير ذلك. يحكى أن جماعة يشمون التراب فيعرفون به الطرقات. قال الأخفش: تم الكلام عند قوله: {وعلامات} وقوله: {وبالنجم هم يهتدون} كلام منفصل عن الأول، والمراد بالنجم الجنس كما يقال: كثر الدرهم في أيدي الناس، وعن السدي هو الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي. قال بعض المفسرين: أراد بقوله: {هم يهتدون} أهل البحر لتقدم ذكر البحر ومنافعه، وقيل: أراد أعم من ذلك فأهل البر أيضًا قد يحصل لهم الاهتداء بالنجوم في الطرق والمسالك، وفي معرفة القبلة، وإنما جيء بالضمير الغائب لعوده إلى السائرين الدال عليهم ذكر السبل.وقال في الكشاف: كأنه أراد قريشًا فقد كان لهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم وكان لهم بذلك علم لم يكن مثله لغيرهم فكان الشكر أوجب عليهم والاعتبار ألزم لهم فخصصوا بتقديم النجم، وإقحام لفظ {هم} كأنه قيل: وبالنجم خصوصًا هؤلاء يهتدون. ثم لما عدد الآيات الدالة على الصانع ووحدانيته واتصافه بجميع صفات الكمال أراد أن يوبخ أهل الشرك والعناد فقال: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} أي كالأصنام التي لا تخلق شيئًا إلا أنه أجراها مجرى أولي العلم فأطلق عليها لفظ {من} التي هي لأولي العقل بناء على زعمهم أنها آلهة، أو لأجل المشاكلة بينه وبين من يخلق، أو أراد أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف بما لا علم عنده، أو أراد كل ما عبد من دون الله مغلبًا فيه أولو العلم منهم، واعلم أنه أهل البيان يقولون: إن المشبه به يجب أن يكون أقوى وأتم في وجه الشبه من المشبه ليلتحق الأضعف بالأقوى في وجه الشبه كقولك: وجهه كالقمر، ولا ريب أن الخالق أقوى من غير الخالق فكان حق النظم في الظاهر أن يقال: أفمن لا يخلق كمن يخلق، والقرآن ورد على العكس، ووجهه عند العلماء زيادة التوبيخ ليكون كأنهم جعلوا غير الخالق أقوى حالًا وأعرف من الخالق. قال في الكشاف: إنهم جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبهوه بها حين جعلوا غيره مثله في التسمية والعبادة فأنكر عليهم ذلك، ولوضوح كون هذا الأمر منكرًا عند من له أدنى عقل بل حس قال: {أفلا تذكرون} وفيه مزيد توبيخ وتجهيل لأنه لجلائه كالحاصل الذي يحصل عند العقل بأدنى تذكر ومع ذلك هم عنه غافلون. قال بعض الأشاعرة. في الآية دلالة على أن العبد غير خالق لأفعال نفسه لأن الآية سيقت لبيان امتيازه بصفة الخالقية. أجابت المعتزلة بأن المراد أفمن يخلق ما تقدم ذكره من السموات والأرض والإنسان والحيوان والنبات والبحار والجبال والنجوم. أو نقول: معنى الآية أن كل ما كان خالقًا يكون أفضل ممن لا يكون خالقًا، وهذا القدر لا يدل على أن كل من كان خالقًا فإنه يجب أن يكون إلهًا نظيره قوله: {ألهم أرجل يمشون بها} [الأعراف: 195]. أراد به أن الإنسان أفضل من الصنم والأفضل لا يليق به عبادة الأخس فكذا ههنا، وقال الكعبي في تفسيره: نحن لا نطلق لفظ الخالق على العبد ومن أطلق ذلك فقد أخطأ إلا في مواضع ذكرها الله تعالى كقوله: {وإذ تخلق من الطين} [المائدة: 110]. فعلى هذا لا يتوجه عليهم السؤال إلا أن أصحاب أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد حتى إن أبا عبد الله البصري قال: إطلاق لفظ الخالق على العبد حقيقة وعلى الله مجاز لأن الخلق عبارة عن التقدير وهو الظن والحسبان.ثم لما فرغ من تعديد الآيات التي هي بالنسبة إلى الملكلفين نعم قال: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} وقد مر تفسيره في سورة إبراهيم. قال العقلاء: إن كل جزء من أجزاء البدن الإنساني لو ظهر فيه أدنى خلل لنغص العمر على الإنسان وتمنى أن ينفق الدنيا لو كانت في ملكه حتى يزول عنه ذلك الخلل. ثم إنه سبحانه يدبر أحوال بدن الإنسان على الوجه الملائم له غالبًا مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك الجزء ولا بمصالحه ومفاسده، فليكن هذا المثال حاضرًا في ذهنك وقس عليه سائر نعم الله تعالى حتى تعرف تقصيرك وقصورك عن شكر أدنى نعمة فضلًا عن جميعها، ولهذا ختم الآية بقوله: {إن الله لغفور رحيم} يغفر التقصير الصادر عنكم في أداء شكر النعمة ويرحمكم حيث لا يقطعها عنكم بالتفريط ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها. كانوا مع اشتغالهم بعبادة غير الله يسرون ضروبًا من الكفر والمكايد في حق الرسول صلى الله عليه وسلم فأوعدهم بقوله: {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} وفيه أيضًا تعريض وتوبيخ بسبب أن الإله يجب أن يكون عالمًا بالسر والعلانية، والأصنام التي عبدوها جمادات لا شعور لها أصلًا فكيف يحسن عبادتها.ثم زاد في التوبيخ فقال: {والذين يدعون} أي الآلهة الذين يدعونهم الكفار {من دون الله لا يخلقون شيئًا} وقد ذكر هذا المعنى في قوله: {كمن لا يخلق} وزاد هاهنا قوله: {وهم يخلقون} أي بخلق الله أو بالنحت والتصوير وهم لا يقدرون على نحو ذلك فهم أعجز من عبدتهم، ففي هذه الآية زيادة بيان لأنه نفى عنهم صفة الكمال وأثبت صفة النقصان، وكذلك قوله: {أموات غير أحياء} يستلزم ذمهم مرتين لأن من الأموات ما يعقب موته حياة كالنطفة والجسد الإنساني الذي فارقه الروح، وأما الحجارة فأموات لا تقبل الحياة أصلًا، وفيه أن الإله الحق يجب أن يكون حيًا لا يعقبه موت وحال هذه الأصنام بالعكس، وفيه أن هؤلاء الكفار في غاية الغباوة وقد يقرر المعنى الواحد مع الغبي الجاهل بعبارتين مختلفتين تنبيهًا على بلادته {وما يشعرون} الضمير فيه للآلهة. أما الضمير في {أيان يبعثون} فإما للآلهة أيضًا ويؤيده ما روي عن ابن عباس أن الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها فيؤمر بالكل إلى النار، وإما للداعين أي لا يشعر الآلهة متى يبعث عبدتهم فيكون فيه تهكم بالمشركين من حيث إن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم؟! وفيه أنه لابد من البعث وأنه من لوازم التكليف، وإما للأحياء أي لا يعلم هؤلاء الآلهة متى تبعث الأحياء تهكمًا بحلها لأن شعور الجماد محال فكيف بشعور ما لا يعلمه حي إلا الحي القيوم سبحانه؟ وجوز في الكشاف أن يراد بالذين يدعوهم الكفار الملائكة، لأن ناسًا منهم كانوا يعبدونهم.ومعنى أنهم {أموات} أي لابد لهم من الموت {غير أحياء} أي غير باقية حياتهم ولا علم لهم بوقت بعثهم، ولما زيف طريقة عبدة الأصنام صرح بما هو الحق في نفس الأمر فقال: {إلهكم إله واحد} ثم ذكر ما لأجله أصر الكفار على شركهم فقال: {فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة} للوحدانية أو لكل كلام يخالف هواهم {وهم مستكبرون} عن قبول الحق وذلك أن المؤمن بالعبث والجزاء يؤثر فيه الترغيب والترهيب فينقاد للحق أسرع، وأما الجاحد للمعاد فلا يقبل إلا ما يوافق رأيه ويلائم طبعه فيبقى في ظلمة الإنكار {لا جرم} أي حقًا {أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون} فيجازيهم على ما أسروا من الاستكبار وأعلنوا من العناد {إنه لا يحب المستكبرين} عن التوحيد فيختص بالمشركين أو كل مستكبر فيدخل هؤلاء دخولًا أوّليًا لأن الكلام فيهم. اهـ.
|